الأحد، 30 ديسمبر 2012

كاترين .. السكينة .. الثقة


كمن يحاول أن يمسك بتفاصيل حلمه السعيد قبل أن تتشوش ملامحه، وتذوب معالمه تماما تحت قسوة رتم الحياة السريع/الملل. أحاول أن أستجدى قليلا من حالة السكينة، تلك التى غمرتنى بين جبال سانت كاترين. أكتب الآن عسى أن تتغمدنى من جديد. كاترين فاجأتنى بأنها قادرة على دهشدتى حتى وأنا على علم تام مسبقا بأنها ستدهشنى. ولكنها دهشة ليست كما توقعت، إنها دهشة الطمأنينة

هناك فى وادى إطلاح حيث كانت محطتنا الأخيرة قبل العودة. أجلس تحت شجرة الخروب، أدفء يداى بطبق الحساء ذو رائحة الصعتر النفاذة، بينما تتدفأ روحى بتلك الجبال التى تحد الوادى من الشرق والغرب.ظهرى منتصب ورأسى مرفوع رغم البرودة، وعيناى معلقتان بالجبل. أنصت بكل جوارحى لوشوشة تلك الوريقات الصفراء التى تشاور نفسها مع كل نسمة هواء بأن تستسلم وترحل مع النسيم. ضوء الشمس ينسحب بلطف من على قمة الجبل الشرقى، ويسحب معه بقايا قلق فى نفسى. أرتشف من الحساء وأطلق تنهيدة عميقة أ ُخرج معها كل ما علق بروحى من ملوثات الحياة.

منذ اللحظة التى وصلت فيها كاترين وأنا أشعر بأننى انتقلت إلى كون أخر.مفردات الطبيعة التى لم تعبث بها يد الإنسان هناك تؤكد لى أننى فى حلم من تصميم خيال بارع. أشباح الجبال تقف فى صمت من هيبة وجلال غارقة ظلام تكسره ملايين النجوم الخافتة. وعشرات من الشهب تشتعل لومضة وتنطفأ. أفكر فى سذاجة، كيف وجدت كل هذه النجوم مكانا لها فى السماء. ما بين خطواتى المتعثرة على الجبل وبين ومضات السماء تنتقل عيناى، وبمجرد أن قطعنا مسافة لا بأس بها صعودا حتى غمرنى إحساس أن الكون ابتلعنى. نقطة أنا فى قلب جبل مهيب مغلف بستارة سوداء مرصعة بملايين النجوم ومئات الشهب. إحساسى بأننى غير خائفة بل مطمئنة أدهشنى، وأدركت أن الكون يحتضننى بعمق، يحتوينى، وأننى جزء متناغم جدا معه.

ما كل هذا الدفء الذى يملأ القلب فى ليالى ديسمبر الكاترينية قارسة البرودة. البرودة تنثر حبات الثلج مسحوقا أبيضا على الرمال وتنثر فى قلبى السكينة. مشروب الشيكولاتة الساخن والحطب المشتعل دائما فى بيت الشَّعْر يمنحان جسدى الحرارة. طبقات من الدفء تغلف قلبى. جسدى فى وسط الصحبة داخل بيت الشَعْر، ومن حوله الجبال تغلفها نجوم الكون بأكمله. ترتخى أعصابى على غير العادة فى الشتاء وأستسلم لنوم عميق متدثرة بدفء وسكينة. أول ما بهرنى عندما فتحت عيناى فى الصباح هو كل تلك المسافة وهذا الجبل الذى عبرته فى الظلام لأصل للمخيم. لو كنت رأيت ذلك فى وضوح النهار لشككت فى قدرتى على المواصلة. ابتلعت دهشتى واكتشفت أن كاترين فى الصباح لها جمال جديد. استطاعت عيناى أن تلتقط كم هائل من التفاصيل التى خبأها الظلام. شجرة الزيتون، تموج الرمال، ألوان الجبل وانحناءاته، الشجيرات المصرة على الخروج من بين شقوق الصخر، السماء صافية الزرقة الممشطة بخطوط بيضاء من السحب، جمال زيهم البدوى، جرى الغنم بخفة على الأحجار، دقة نسج بيت الشَعْر، ... كل ذلك تحت بهجة نور الشمس.ابتسامتى طفت بتلقائية على شفتاى طوال اليوم وبهجة حقيقية علقت بروحى.

الدير.. بأعواد السعف المزينة بأوراق الزيتون استقبلنى، وكأنه على علم بأننى لأول مرة فى حياتى أزور دير أو كنيسة فأراد أن يستقلبنى بحفاوة. يكفينى أن أشعر بروح كاترين الطاهرة تحوم بالمكان، وأن جبل موسى يطل على فناء الدير فأرى موسى بأعلاه واقفا فى حضرة الجلال. أتلمس بنظراتى كل تفاصيل المكان وأعبأ ذاكرتى بقدسيته، الوقت المتاح ضيقا جدا فأختزن من روح المكان فى نفسى قدر استطاعتى. أمرر عيناى لمرة أخرى وألقى النظرة الأخيرة على العليقة وأرحل.

 أسمع صوتا ينادى باسمى ليوقظنى قبيل الفجر. سنرحل الآن. للمرة السادسة علينا أن نعبر جبلا صعودا وهبوطا لنخرج من المخيم إلى مكان السيارة. أودع كاترين وأخر صورة فى ذهنى عنها من فوق ظهر سمسم (الجمل). يحملنى فى أخر صعود لى على الجبل. ثابتة ومنتصبة القامة أجلس على ظهره، لأول مرة أثق بحيوان، أنا التى لا تثق بسهولة فى البشر. منذ اللحظات الأولى تيقنت أنه لن يسقطنى. سمسم هذه المرة هو الدليل وأنا فوقه والأصدقاء فى صف يسيرون خلفنا. أقف على المحطة فى انتظار أتوبيس العودة وآشعة الشروق تتفلت من وراء الجبل ملونة السماء  فوقى بجميع درجات الأزرق الرائق

 جئت إليك يا كاترين وأنا أتمنى صعود جبل موسى. لدى تصورا خاصا عن هذه التجربة وكنت أود أن أختبره. لكنكِ فى ضيافتك الأولى لى أثرتِ أن تمنحينى ما لم أخطط لتجربته لتجبرينى أن أعود إليكِ مجددا محملة بالأمانى والتصورات. تعلمين أننى كنت أظن أن جمالك يكمن فى صعود الجبل وأننى لم أتخيل نفسى أزورك دون أن أفعل ذلك. فأردتى أن تثبتى لى أننى لا أعرف عنكِ شيئا وأنه من الأفضل لى أن أكف عن تكوين التصورات السطحية كالأطفال، وأن أترك نفسى فى هدوء لكِ لتزرعى بقلبى سكينة واطمئنان. لم أصعد جبل موسى ولكننى عبرت عددا لا بأس به من الجبال ومشيت كثيرا. كل خطوة إنما كنت أخطوها باتجاه نفسى. ارتحلت بداخلى وأنا أرتحل فيكِ. أخطو الخطوة فى الظلام وأنا لا أرى هدفا و لا طريق. لا أرى إلا الخطوة التى تليها فقط،لكننى وثقت بأنكِ لن تضيعينى. وفى النهار كنت أرى الطريق واضحا لكنه بعيدا ومخيفا بين الجبال والهُوى العميقة لكننى وثقت بأنكِ ستمنحينى القدرة. جئت إليكِ بهواجسى المريضة عن الكائنات السامة، عن وحشة الجبال، وعن أتربة الصحراء. لكن جبالك فاجأتنى باحتوائها لى وبأمانها الذى لم أجده فى مدينتى الصاخبة. لم أتنفس بعمق كما تنفست على رمالك دون أن يسد رئتاى غبار من تلوث. كاترين .. لقد استطعتِ أن تغسلى روحى من جديد وأن تمنحينى ثقة.. وسكينة، لم أدركهما جيدا إلا عندما وطأت قدماى أرض مدينتى.

by Radwa Adel Shedeed on Thursday, 27 December 2012 at 10:19

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق